من لم يلاحظ تغير المعادلة الدولية بخصوص الأوضاع في سوريا فهو إما أعمى أو واهم، لقد كان سقوط (بابا عمرو) تكريساً لواقع جديد في التعامل مع الثورة السورية، فقد كان قصف هذا الحي مع كل ما رافقه من مجازر ووقوف دول العالم بحالة من الشلل أمام أقسى المشاهد المرعبة دليل على وجود ضوء أخضر من أقوى دولة في العالم وهي (أمريكا) بتنفيذ ما حصل في حي (بابا عمرو).
لقد صمتت أفواه المتشدقين بعبارات مثل: "لن نسمح بحماة أخرى، ويجب وضع حد للمجازر، ويجب على المجتمع الدولي عدم السكوت" ولم نسمع في الأفق سوى طلقات الرصاص ودوي المدفعيات، وفي الحي المكلوم لم نسمع سوى أنات الثكالى، وآهات المجروحين، لقد تمت الصفقة الكبرى بين أكبر مافيات العالم وهي: (أمريكا وإسرائيل، وروسيا، وإيران) أما تفاصيل الصفقة فلن تعرف الآن، وسيمر وقت ليس بطويل حتى نرى تداعياتها على الأرض.
أما وقوف أمريكا بدايةً مع الثورة السورية، فكان وقوفاً معنوياً لا غير، وذلك كي لا تخرج أمريكا نفسها عن الخط الداعم للتغيير في حمى الثورات العربية، ولكن التغيير الذي كانت تطمح إليه أمريكا هو تغيير الأسلوب في طريقة تعاطي النظام السوري مع الحراك الشعبي، ولذلك كانت الدعوات الأمريكية في البداية تنادي على الأسد ليقود الإصلاحات، أما مطالبات التنحي فقد جاءت تحت وقع انتشار الثورة السورية، وتقديمها للتضحيات الهائلة من شهداء ومعتقلين فاضطرت حينها الإدارة الأمريكية أن تصدر بيانات خجولة بضرورة رحيل النظام السوري والحكومة السورية، والانتقال الديمقراطي للسلطة دون توجيه أمراً مباشراً برحيل بشار الأسد عن السلطة، كما حدث مع (مبارك) مصر، (وبن علي) تونس، و(قذافي) ليبيا و(صالح) اليمن.
لقد صدر لكل هؤلاء تحذيراً مباشراً من أوباما نفسه بضرورة الرحيل الآن، بينما لا تفتأ الإدارة الأمريكية تكرر عبارات مثل: "سيرحل النظام السوري عاجلاً أم آجلاً، والأسد سيرحل في النهاية". إن عدم مخاطبة الأسد بلهجة حازمة من قبل أمريكا صارت أقرب ما يكون لترغيب وليس لترهيب النظام السوري من ارتكاب المزيد من المجازر بحق معارضيه.
وصارت التهديدات الأمريكية عصا للتلويح دون الضرب! وكلنا يذكر تعقيب الأسد على مطالبة الإدارة الأمريكية له بالتنحي بوصفها: "ليس لها معنى!" فهل وصلت قوة النظام السوري لهذه الدرجة من التحدي؟! لا والله بل لأن الأسد صار يتصرف كطفل صغير عاص يهدده أب حنون بالضرب وحرمانه من المصروف، ثم ما يلبث أن يحتضنه بين ذراعيه.
أما سبب الانتقال الأمريكي من الدعم الخفي للنظام السوري إلى الدعم الواضح والجلي، فهو انحياز الإدارة الأمريكية إلى حلف روسيا، إيران مع الموقف الإسرائيلي الداعم لبقاء النظام السوري، ونرى ذلك الانحياز متجلياً في مبادرة مبعوث الأمم المتحدة التي هي عبارة عن ورقة اتفاق روسي، أمريكي تم التوقيع عليها تحت مظلة الأمم المتحدة لتكريس المقاربة الروسية للأزمة في سوريا، وقد اعتبرتها أمريكا ورقة النجاة من فضيحة (لحس كلمتها) أمام المجتمع الدولي، وفي موافقة أمريكا على هذه المبادرة مالت كفة الميزان الدولي لصالح الروس الذين استطاعوا تمرير رؤيتهم لما يحدث في سوريا في مبادرة نسفت كل ما أجمعت عليه معظم الدول الكبرى من ضرورة رحيل الأسد وعدم مساواة المجرم بالضحية.
لقد اكتملت عناصر المؤامرة بطريقة دراماتيكية، (فإسرائيل وإيران) وهما القطبان المتنافران مذهبياً حلفاء في دعم النظام السوري، (وروسيا وأمريكا) وهما القطبان المتنافران أيديولوجياً حلفاء في دعمه أيضاً، روسيا تقدم التطمينات لإسرائيل بأن الأسد في حال عدم سقوطه سيكون أكثر إخلاصاً لإسرائيل من أي وقت مضى! وروسيا تقدم التطمينات لأمريكا بأن إيران لن تطور سلاحاً نووياً يهدد إسرائيل، وأمريكا تقدم التطمينات لروسيا بأن لن تسمح (للربيع الإسلامي) أن يدق أبواب الكرملين، وأمريكا تقدم التطمينات للنظام السوري بأنه لن يلاحق أمام المحاكم الدولية مهما فعل! الذئاب تطمئن بعضها والفريسة تستجير... فهل سيكون لحم الفريسة مرًاً؟ ستعرفون الجواب من ثوار سوريا في قادم الأيام.