بسم الله الرحمن الرحيم
هل استغربتم من هذا العنوان ؟ أم هل تساءلتم :?: ؟ وهل في الوجود أموات أحياء ؟
عليك أن تصدق أن هناك أموات أحياء , وهذا ليس من حكايا ألف ليلة وليلة , ولا من أفلام الرعب الهوليودية , لا حتى من قصص الخيال العلمي . و "أنا أيضا لا أقصد الشهداء".
بل هم يعيشون بيننا ونراهم جميعا في شوارعنا كل يوم . إنهم وباختصار ومن غير لف ودوران , إنهم "المتشردون وأطفال الشوارع, ومرتادي حاويات القمامة" .
هل تعرفهم ؟ ألم ترهم ؟ ألم تسمع بهم ؟
بلى هؤلاء هم الأموات الأحياء .
نراهم كل يوم يجوبون الشوارع بحثا عن لقمة عيش مترامية هنا أو هناك . ثيابهم مهدلة , ممزقة , وإن حسن بختهم وخظهم مرقعة , مأواهم العراء , غذاؤهم القذارات .
قد يهفو بعضهم إلى حذاءك ليطلب قرشا , فتركله . أو تجحظ عيناه إلى طعامك الذي أخذت بتناوله في الشارع وأنت مسرع إلى عمل , فيلهث وراءك يرجو لقمة تسد رمقة .
والبعض عزت عليه نفسه فآثر مشاركة القطاط في نبش الحاويات بحثا عن كِسرة خبز وخصلة خضار أو فتات لحم مما استكبرت عن تناوله ورميته إجحافا بالنعمة في سلة مهملاتك قرفا أو كِبرا. ونسيت دوران الدنيا بأحوال البشر. فأنت إن كنت اليوم غنيا , ربما أتاك يوم ترى نفسك مكان هذا الطفل تنافسه في منتجعه ومطعمه . أو ربما قتلك الكِبر بعد أن تتذكر ماضيك المشرق .
فإن جاد عليهم الحظ فربا وجدوا بقايا فراخ مشوية أو قطعة قماش تستر عورته .
ثم إن بعضعم رأى في هذه الحاويات إضافة إلى كونها مطعة مجانيا لا يكلفه شيئا سوى الحياء من الأناس , هذا إن اعتبرهم أناس , يستحقون الحياء منهم وهو الذي يرى أنهم من أوصوله إلى هذا الدرك السفلي من سلسلة الحياة .
وجد في هذ المطعم ما يجود عليه بالمال .. إنها قطع البلاستيك والألمنيوم والزجاج والورق التي يتسع سوقها في هذه الأيام .
هؤلاء بصورة مصغرة هم الأحياء الأموات , فمن أوجدهم .
الذي أوجدهم يا سيدي أنا وأنت والمجتمع بأكمله.
الذي أوجدهم , أب تزوج ليشبع شهوته , ثم طلق بزخا , وطمعا .
الذي أوجدهم أبوان لا يعرفان من هذه الحياة إلا لذة الذواج ونسيا قيمتها وكل ما تتطلب منهما ألا وهي المسؤولية تجاه الأبناء وتجاه الآخر .
أبن وأم لا يريا من الأبناء إلا العدد. لا يعرفان معنا للتربية وتقويم الأبناء ... "لأنهما ربيا على ذلك أيضا"
الذي أوجدهم مجتمع لم يهيء أجياله لتحسس معنى المسؤولية , بل لا يهمهم إلا إشباع ما يجيش في صدورهم من أوار شهوة بهائمية . ثم ما تلاها , لا يعرفون عنه شيء ولا يريدون أن يعرفوا.
حكومات ضيقت على شعوبها فأكثرت الفقر , ليغنى أبناء الطبقات الأرستقراطية والرأسمالية على كاهل , غثاء الشعب والمجتمع .
شاهدت طفلا ذات يوم يتحدث عن تشرده فقال : طُلقت والدتي فرفض كل أقربائي تولي رعايتي " أمي, أبي , جدي , أعمامي.." الكل رفض والكل يقول اذهب إلى أمك أو اذهب إلى أبيك ... ربوني بضع شهور ثم رموني ... أين أذهب ؟ .. .. لم أجد إلا الشارع مأوا ... ولم أجد إلا هؤلاء ..( وأشار إلى بعض رفاقه من المشتردين) أصدقاء يقاسمونني العناء والتعب والعنت والطعام والمأوى ... نبيع العلكة والزاهي والمحارم حتى لا نشحد ....
هذا نموذج والنماذج أكثر من أن تعد تحصى ...
ومنذ أيام سمعت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل تقول أنهم توصلوا إلى اتفاق مع منظمة اليونسكو لإنشاء مراكز تأهيل لأطفال الشوراع "كما أسمتهم" ثم إدماجهم في المجتمع بعد أن يتلقوا الرعاية والتأهيل النفسي [لتقبل الآخر الذي فقدوا الثقة فيه] فيكونوا قادرين على أن يصبحوا أعضاء فاعلين في المجتمع .
وهذه الخطوة من الحكومة جيدة .. لأنها تساعد على إعادة تقبل هؤلاء للمجتمع من حوله وتساعد أيضا على نزع الرغبة في الجريمة من صدورهم "والذين بدأنا نحن بالإجرام في حقهم - وأنا لا أبرر" وتنزعهم من أيدي مستغليهم .... وما أكثرهم .. .
إلا أنه يجب بالمقابل إيجاد مراكز تأهيل للوالدين الذَين لا يعرفان معنى للمسؤلية ... وللمجتمع أيضا . لأن استئصال الداء ... خير من معالجة أعراضه ...
والحمد لله رب العالمين